نجم البلدة: مهرجان يضيء الذاكرة الثقافية وينعش السياحة في حضرموت

منذ عام 2004، تحتضن مدينة المكلا بمحافظة حضرموت فعالية موسمية تُعرف بـ”مهرجان البلدة”، والذي يُقام سنويًا في منتصف شهر يوليو ويستمر حتى الخامس والعشرين منه. ويجمع المهرجان بين سحر الشواطئ وثراء التراث الثقافي إلى جانب الأنشطة الرياضية والاجتماعية، ويشهد إقبالاً جماهيرياً لافتاً.

انطلقت فعاليات مهرجان البلدة السياحي لهذا العام في مدينة المكلا في 15 يوليو، وتستمر حتى الأول من أغسطس، بالتزامن مع ظاهرة “نجم البلدة” التي تستمر لمدة 13 يومًا، من 15 حتى 28 يوليو. ووفقًا للمؤرخ عبدالرحمن الملاحي، فإن نجم البلدة يظهر وفق التوقيت المحلي لحضرموت، والمعروف هناك بـ”التقويم الشبامي”، الذي يعتمد على منازل القمر كمؤشرات زمنية أو دلالات تُستخدم كمرجع لتقسيم السنة الشمسية بالكامل.

ويُشير الملاحي إلى أن هذا التقويم له جذور قديمة تعود إلى ما قبل القرن الثالث الهجري، حيث ارتبطت منازل القمر والنجوم بمواسم معروفة في مختلف أنحاء اليمن، رغم اختلاف أسمائها وأنواعها من منطقة لأخرى. ويؤكد أن نجم البلدة يظهر عادة في منتصف يوليو، وتحديدًا في يوم 14 أو 15 أو 16 من الشهر، ويقترن ظهوره بحدوث ظاهرة “البلدة”، التي تُعرف بانخفاض درجات الحرارة نتيجة تداخل عاملين رئيسيين: الرياح والتيارات البحرية، حيثُ تُعد هذه الفترة مثالية للاستجمام والسياحة العلاجية لما تشهده سواحل المدينة من برودة واضحة في مياه البحر.

موسم البلدة في حضرموت: تراث ولقاء

يرتبط موسم البلدة ارتباطًا وثيقًا بالحياة الثقافية والاجتماعية العامة لسكان وادي حضرموت وساحلها، ويُعد من المواسم التي تحمل طابعًا تراثيًا مميزًا وفي هذا السياق، يشير الباحث عمر بامتياز إلى أن منطقتي روكب والشحر تُعدان من أقدم المناطق الساحلية في حضرموت التي اعتادت الاحتفال بموسم البلدة، فقد كان الناس ينتظرون ظهور “نجم البلدة” كفرصة للراحة والفرح والاجتماع، حيث يشهد هذا الموسم لقاءات وتقاليد موروثة تُحيي الروابط المجتمعية.

ومن جانبه، يوضح الملاحي ل “شواهد” أن سكان القرى الزراعية النائية كانوا يفدون إلى منطقتي روكب والشحر خلال فصل الخريف، حاملين معهم ما يُعرف بـ”الوزيف”، وهي أنواع صغيرة من الأسماك يتم تجفيفها وتمليحها لاستخدامها لاحقًا كغذاء أو سماد زراعي، إذ يتزامن هذا الموسم مع ذروة النشاط الزراعي وتخزين المؤن.

أما الصيادون، فغالبًا ما يتوقفون عن الذهاب إلى البحر خلال هذه الفترة، باستثناء من يصطادون في مناطق قريبة ثم يعودون بسرعة في المقابل، يتجه معظمهم إلى الأرياف للعمل في جني التمور والعناية بالنخيل، إذ يصادف هذا الموسم بداية الخريف، وهو موسم التمور في حضرموت، مما يتيح لهم فرصة لكسب رزق جديد من العمل في المزارع.

ويضيف بامتياز أن من أبرز مظاهر الاحتفال بموسم البلدة في منطقة روكب إقامة فعاليات دينية واجتماعية في مسجد الشيخ أحمد بن مطهر العمودي، حيث تستمر الفعاليات ثلاثة أيام، ويجتمع فيها الناس من مختلف المناطق المجاورة في أجواء تسودها الروحانية، والأنس، والمحبة.

الهوية البيئية والمكانية لنجم البلدة

يشير الباحث في هيئة أبحاث علوم البحار والأحياء المائية بحضرموت عمر باجنيد ل “شواهد”، إلى أن موسم “نجم البلدة” يُعد أحد ملامح ظاهرة الانبثاق القاعي لمياه البحر، التي تظهر بشكل واضح خلال الفترة الممتدة من مطلع يونيو حتى نهاية سبتمبر. وتنتج هذه الظاهرة عن التفاعل بين الرياح الجنوبية الغربية المعروفة محليًا برياح الشمال، والتيار البحري العميق المعروف بالتيار الصومالي أو التيار الإفريقي الكبير، ويسهم هذا التفاعل في دفع المياه الباردة من أعماق البحر إلى السطح، وبفعل دوران الأرض تتحرك هذه المياه شرقًا وتبدأ تدريجيًا في فقدان برودتها لتحل محلها طبقات جديدة من المياه الباردة، وهو ما يفسر التباين في برودة البحر كلما اتجهنا شرقًا نحو سواحل حضرموت، حيث تظهر هذه الظاهرة بوضوح مقارنة بسواحل أخرى مثل الصومال.

وتُعد هذه الظاهرة البحرية غنية بالمغذيات والمعادن، مما ينعكس على ازدهار الهائمات النباتية والحيوانية، التي تشكل بدورها قاعدة خصبة للسلسلة الغذائية البحرية، وتُعد هذه الظاهرة نادرة الحدوث عالميًا إذ لا تظهر إلا في خمسة مواقع حول العالم، تتلاقى فيها الرياح الموسمية مع تيارات محيطية محددة، وتتمثل هذه المواقع في ساحل كاليفورنيا في أمريكا الشمالية، والساحل الجنوبي الغربي لأمريكا الجنوبية بمحاذاة البيرو وتشيلي، والساحل الشمالي الغربي لأفريقيا قرب جنوب موريتانيا، وساحل بحر العرب بمحافظة حضرموت، والساحل الجنوبي الغربي لأفريقيا.

ويؤكد باجنيد على أهمية هذه الظاهرة في تشكيل هوية ثقافية واجتماعية متميزة، داعيًا إلى ضرورة إحياء التراث المرتبط بها من خلال تنفيذ برامج ثقافية تعيد إحياء الموروث البحري والزراعي، مثل تنظيم رحلات إبحار وغوص تحاكي رحلات الأجداد خلال موسم البلدة، إلى جانب تسليط الضوء على الحرف السمكية والزراعية المرتبطة بهذا الموسم.

كما يرى أن الجانب السياحي يمكن أن يستفيد من المواقع البيئية البحرية الغنية في حضرموت، كتنظيم برامج وإعداد خرائط للشعاب المرجانية ومواقع الأسماك كوجهات للزيارة والاستجمام، كما يمكن استثمار المناطق الساحلية بحسب خصوصية كل منطقة، مثل محمية شرمة التي تصلح لتنظيم زيارات لمشاهدة السلاحف وصغارها دون الإضرار بها، أو المياه الكبريتية في الحامي التي يمكن تطويرها كمرافق سياحية راقية ضمن أنشطة موسم البلدة، إضافة إلى إعادة افتتاح متحف الحامي البحري المقرر تدشينه في أغسطس المقبل وتوسيع برامجه ومحتواه.

دور الشباب في الحفاظ على التراث وتنشيط السياحة

يؤكد فادي سالم حقان رئيس اتحاد الملتقيات الشبابية التطوعية بساحل حضرموت، على أهمية إحياء التراث الثقافي والمجتمعي كوسيلة فاعلة لتعزيز الانتماء الوطني لدى الشباب، خصوصًا في ظل الظروف الراهنة التي تمر بها اليمن.

ويعتبر حقان أن مدينة المكلا بطابعها المتفرد كمركز للسلام والثقافة، تبرز من بين المدن اليمنية الأخرى بمواسمها التراثية مثل “نجم البلدة” التي تحمل بعدًا ثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا.

ويرى حقان أن الشباب يلعبون دورًا محوريًا في الحفاظ على هذه المواسم وتطويرها، فهم يمتلكون أفكارًا متجددة تسهم في صناعة مشاريع ثقافية وسياحية تواكب تطلعات المجتمع، وتعزز من مكانة الهوية الحضرمية، ورغم تردي الظروف المعيشية يظل الشباب متمسكين بحبهم وولائهم لمدينتهم المكلا.

كما يعتبر حقان أن لموسم نجم البلدة دور في تعزيز السياحة الداخلية، لما له من تأثير مباشر في تنمية الثقافة الإبداعية والفعاليات الترفيهية والرياضية التي تشكل تحول فريدا في استقطاب الكثير من أبناء الوطن وخارجه لمدينة المكلا.

كما شدد حقان على أهمية المبادرات الشبابية المشاركة في المهرجان رغم قلتها ومثل هذه المواسم يجب استغلالها بشكل أكبر في تنشيط الحراك الترفيهي الذي يعني صدا اكبر للمناسبة ويزيد من مستوى الدخل والانتعاش الاقتصادي وتغيير السلوكيات المجتمعية السلبية، من خلال المبادرات والمشاركات الشبابية النوعية التي ما تزال بحاجة إلى دعم أوسع.

مهرجان نجم البلدة: فرصة ثقافية تواجه تحديات تنظيمية

من جانبه يرى خالد سعيد مدرك رئيس مؤسسة حضرموت للتراث والتاريخ والثقافة، أن مهرجان نجم البلدة يعد مناسبة سنوية تسهم في الحفاظ على التراث الحضرمي المتنوع، عبر سلسلة من الفعاليات الثقافية والفنية مثل الرقص الشعبي، الموسيقى، الفنون البحرية، إضافة إلى الندوات الثقافية والعلمية التي تعكس العلاقة الوثيقة بين الإنسان والبحر في حضرموت.

ومع ذلك، يشير مدرك إلى تحديات متعددة تواجه المهرجان أبرزها غياب إدارة متخصصة تتولى تنظيمه بشكل مهني، وانتقد ضعف التوثيق مرجعًا ذلك إلى عدم منح المختصين بالصوت والصورة الصلاحيات المطلوبة لتوثيق هذه المناسبة بشكل احترافي.

وفي نفس السياق يضيف  حقان على ضرورة دعم هذه الفعاليات لما لها من دور في إنعاش الحراك الاقتصادي وخلق فرص حقيقية أمام المشاريع الشبابية الصغيرة، مشيرًا إلى أن غياب الوعي لدى القطاع الخاص حول أهمية الاستثمار في الجوانب الإعلامية والترويجية يمثل أحد أبرز التحديات التي تعيق تطوير هذه الفعاليات وتوثيقها بالشكل المطلوب.

ويؤكد مدرك على أن الوضع الراهن في اليمن يمثل عائقًا حقيقيًا أمام الحفاظ على التراث الثقافي، نتيجة غياب الدعم المالي والمعنوي، مما يجعل من الصعب تنفيذ فعاليات تحفظ هوية حضرموت وتعزز الانتماء الثقافي لسكانها.

كما يشير  مدرك إلى افتقار الجهات المسؤولة للرؤية التخطيطية الكفيلة بالحفاظ على سلامة المشاركين، خاصة في ظل حوادث الغرق المتكررة.

ويختتم باجنيد حديثه بتوجيه رسالة توعوية لمرتادي البحر، مشددًا على أهمية الالتزام بتعليمات خفر السواحل، الذين يعملون بجهد متواصل بالتنسيق مع المتطوعين من شباب حضرموت، وعلى رأسهم الغواصون، لحماية الزوار والحد من المخاطر. وينبّه إلى أن تيارات البحر باتت أشد خطورة نتيجة التغيرات المناخية، مما يجعل حتى الغواصين المحترفين عرضة للخطر، الأمر الذي يجعل من الالتزام بالإرشادات البحرية ضرورة قصوى لضمان السلامة للجميع.